سورة الكهف - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


قلت: {رجلين}: بدل من {مثلاً}، وجملة {جعلنا...} بتمامها: بيان للتمثيل، أو صفة لرجلين، و{ما شاء الله}: خبر، أي: هذا ما شاء الله، أو الأمر ما شاء الله، أو مبتدأ حُذف الخبر، أي: الذي شاء الله كائن، أو شرطية، والجواب محذوف، أيْ: أيّ شيء شاء الله كان، و{هنالك}: ظرف مقدم، و{الولاية}: مبتدأ، والظرف: إشارة إلى الآخرة، وهذا أحسن.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {واضربْ لهم} أي: للفريقين؛ فريق المؤمنين والكافرين المتقدمين، {مَّثَلاً}؛ من حيث عصيان الكافر، مع تقلبه في النعيم، وطاعة المؤمن، مع مكابدته مَشَاقَّ الفقر، وما كان مآلهما، لا من حيث ما ذكر من أن للكافر في الآخرة كذا وللمؤمن كذا، أي: واضرب لهم حالي {رجُلَيْن} مقدرين أو محققين، هما أخوان من بني إسرائيل، أو شريكان: كافر، واسمه قُطروس، ومؤمن، اسمه يهوذا، اقتسما ثمانية آلاف دينار، أو ورثَاها من أبيهما، فاشترى الكافر بنصيبه ضياعًا وعقارًا، وصرف المؤمن نصيبه إلى وجوه البر.
رُوِيَ: أن الكافر اشترى أرضًا بألف دينار، فقال صاحبه المؤمن: اللهم إن فلانًا اشترى أرضًا بألف، وإني أشتري منك أرضًا في الجنة بألف، فتصدق بألف دينار، ثم إن صاحبه بنى دارًا بألف دينار، فقال المؤمن: اللهم إن صاحبي بنى دارًا بألف، وإني أشتري منك دارًا في الجنة بألف، فتصدق بألف دينار، ثم إن صاحبه تزوج امرأة بألف دينار، فقال: اللهم، إن فلانًا تزوج بألف دينار، وإني أخطب منك من نساء الجنة بألف، فتصدق بألف دينار، ثم إن صاحبه اشترى خادمًا ومتاعًا بألف دينار، فقال: اللهم إن فلاناً اشترى خادماً ومتاعاً بألف، وإني أشتري منك خادماً ومتاعاً من الجنة بألف، فتصدق بألف دينار، ثم أصابته حاجة، فقال: لعل صاحبي يُناولني معروفه، فأتاه، فقال: ما فعل مالك؟ فأخبره قصته، فقال: أو إنك لمن المصدقين بهذا؟ والله لا أعطيك شيئًا، فلما تُوفيا آل أمرهما إلى ما ذكر الله في سورة الصافات بقوله: {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين} [الصافات: 51، 52] الآية.
وبيَّن حالهما في الدنيا بقوله: {جعلنا لأحدهما} وهو الكافر، {جنتين}: بساتين {من أعنابٍ}: من كروم متنوعة، {وحفَفناهما بنَخْلٍ} أي: جعلنا النخل محيطة بهما محفوظًا بها كرومهما، {وجعلنا بينهما}: وسطهما {زرعًا}؛ ليكون كل منهما جامعًا للأقوات والفواكه، متواصل العمارة، على الهيئة الرائقة، والوضع الأنيق. {كلتا الجنتين آتت أُكُلَها}: ثمرها وبلغ مبلغًا صالحًا للأكل، {ولم تَظْلِم منه شيئًا} أي: لم تنقص من أكلها شيئًا في كل سنة، بخلاف سائر البساتين، فإن الثمار غالبًا تكثر في عام وتقل في عام، {وفجَّرْنا خِلالهما}: فيما بين كل من الجنتين {نَهَرًا} على حدةٍ، وقرئ بالسكون.
والنهر: الماء الكثير، وكان لكل بستان نهر؛ ليدوم شربها ويدوم بهاؤها.
ولعل تأخير تفجير النهر عن ذكر إيتاء الأكل، مع أن الترتيب الخارجي العكس؛ للإيذان باستقلال كل من إيتاء الأكل وتفجير النهر في تكميل محاسن الجنتين، كما في قصة البقرة ونحوها، ولو عكس لأوهم أن المجموع خصلة واحدة بعضها مرتب على بعض.
{وكان له ثمرٌ} أي: وكان لصاحب الجنتين أنواع من المال غير الجنتين، من ثَمُرَ مالُه: إذا كثر. قال ابن عباس: الثمر: جميع المال؛ من الذهب، والفضة والحيوان، وغير ذلك. وقال مجاهد: هو الذهب والفضة خاصة. {فقال لصاحبه} المؤمن، أخيه أو شريكه، {وهو يُحاوره}: يراجعه في الكلام، من حَار إذا رجع، وذلك أنه سأله عن ماله فيما أنفقه، فقال: قدمتُه بين يدي، لأقدم عليه، فقال له: {أنا أكثرُ منك مالاً وأعزُ نفرًا}: حَشمًا وأعوانًا وأولادًا ذكورًا؛ لأنهم الذين ينفرون معه.
{ودخل جَنَّتَهُ}: بستانه الذي تقدم وصفه، وإنما وحده؛ إما لعدم تعلق الغرض بتعدده، أو لاتصال أحدهما بالآخر، أو لأن الدخول يكون في واحدٍ واحد. فدخله {وهو ظالمٌ لنفسه}؛ ضارُّ لها بعُجْبه وكفره، {قال} حين دخوله: {ما أظنُ أن تَبِيدَ هذه} الجنة، أي: تفنى {أبدًا}؛ لطول أمده وتمادي غفلته، وإنكارًا لفناء الدنيا وقيام الساعة، ولذلك قال: {وما أظنُّ الساعة قائمةً} أي: كائنة فيما سيأتي، {ولئن رُدِدتُ إِلى ربي}؛ بالبعث عند قيامها، كما تقول، {لأجدنَّ} حينئذ {خيرًا منها}: من الجنتين {مُنقلبًا} أي: مرجعًا وعاقبة، أي: كما أعطاني هذا في الدنيا سيعطيني أفضل منه في الآخرة، ومدار هذا الطمع واليمين الفاجرة: اعتقاد أنه تعالى إنما أولاه ما أولاه في الدنيا؛ لاستحقاقه لذاتِهِ، وكرامته عليه، ولم يَدْرِ أن ذلك استدراج.
{قال له صاحبه}؛ أخوه المسلم {وهو يُحاوره أكفرتَ بالذي خلقك} أي: أصلك {من ترابٍ}، فإن خلق آدم عليه السلام من تراب متضمن لخلق أولاده منه؛ إذ لم تكن فطرته مقصورة على نفسه، بل كانت أنموذجًا منطويًا على فطرة سائر أفراد الجنس، انطواءً مجانسًا مُستتْبعًا لجريان آثارها على الكل، فكان خلْقُه عليه السلام من تراب خلقًا للكل منه، {ثم من نطفة} هي مادتك القريبة، {ثم سَوَّاك رجلاً} أي: عدلك وكملك إنسانًا ذكرًا، أو صيرك رجلاً، وفي التعبير بالموصول مع صلته: تلويح بدليل البعث الذي نطق به قوله تعالى: {ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ} [الحَجّ: 5].
قال البيضاوي: جعل كفره بالبعث كفرًا بالله؛ لأنه منشأ الشك في كمال قدرة الله، ولذلك رتَّب الإنكار على خلقه إياه من التراب، فإن مَنْ قدر على إبداء خلقه منه قدر أن يعيده منه. اهـ.
ثم قال أخوه المسلم: {لَكِنَّا} أصله: لكن أنا، وقُرئ به، فحُذفت الهمزة، فالتقت النونان فوقع الإدغام، {هو الله ربِّي}، {هو}: ضمير الشأن، مبتدأ، خبره: {هو الله ربي}، وتلك الجملة: خبر {أنا}، والعائد منها: الضمير، وقرئ بإثبات {أنا} في الوصل والوقف، وفي الوقف خاصة، ومدار الاستدراك قوله تعالى: {أكفرت}، كأنه قال: أنت كافر، لكني مؤمن موحد، {ولا أُشركُ بربي أحدًا}، وفيه تنبيه على أن كفره كان بالإشراك.
قاله أبو السعود.
قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي: والذي يظهر من قوله: {ولولا إذ دخلت...} الآية، ومن قوله: {يا ليتني لم أشرك...} الآية، أنه إشراك بالله في عدم صرف المشيئة إليه، ودعوى الاستقلال بنفسه دونه، وقد قال وهب بن منبه: (قرأت في تسعين كتابًا من كتب الله أن من وَكل إلى نفسه شيئًا من المشيئة فقد كفر)، ثم شكه في البعث تكذيب بوعد الله، وهو كفر صراح. اهـ.
{ولولا إِذْ دخلتَ جنتك}: بستانك، {قلتَ ما شاء الله} أي: هلاَّ قُلتَ عند دخولها: {ما شاء الله} أي: الأمر ما شاء الله، أو ما شاء الله يكون، والمراد: تحضيضه على الاعتراف بأنها وما فيها بمشيئة الله تعالى، إن شاء أبقاها، وإن شاء أخفاها، {لا قوة إِلا بالله} أي: لا قوة لي على عمارتها وتدبير أمرها إلا بمعونة الله وإقداره.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى شَيْئًا فأعْجَبه فَقَالَ: مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بالله، لَمْ يضُرّهُ شَيءٌ» وقال لأبي هريرة: «أَلاَ أَدُلُك عَلى كَلِمَةٍ مِن كُنُوزِ الْجَنَّة»؟ قَال بَلَى يا رسُول الله، قال: «لاَ قوةَ إلاَّ بالله، إن قالها العبد قال اللهُ عَزّ وجلّ: أسْلم عبدي واسْتَسْلم» وقال لعبْدِ اللهِ بْنَ قَيْسٍ: «ألاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الجَنَِّةِ»؟ قال: بَلَى، يا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «لاَ حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلاَّ بالله».
ثم قال له أخوه المسلم: {إِن ترنِ أنا أقلَّ منك مالاً وولدًا} في الدنيا، وفيه تقوية لمن فسر النفر بالولد، {فعسى ربي أن يُؤتين} في الآخرة أو في الدنيا {خيرًا من جنتك} والمعنى: إن ترني أفقر منك فأنا أتوقع من صُنع الله سبحانه أن يقلب ما بي وبك من الفقر والغنى، فيرزقني جنة خيرًا من جنتك، ويسلبك؛ لكفرك نعمته، ويخرب جنتك، {ويُرسلَ عليها حُسْبانًا}: عذابًا {من السماء} يُذهبها، من بَرَدٍ أو صاعقة، وهو جمع: حُسْبَانة، وهي: المرامي من هذه الأنواع المذكورة، وتطلق أيضًا، في اللغة، على سهام تُرمى دفعة واحدة، {فتُصبح صعيدًا زَلقًا} أي: أرضًا ملساء، يزلق عليها؛ الاستئصال ما عليها من النبات والشجر والبناء، {أو يُصبح ماؤُها} أي: النهر الذي خِلالَها {غَوْرًا}: غائرًا ذاهبًا في الأرض، و {زلقًا} و {غورًا}: مصدران، عبَّر بهما عن الوصف؛ مبالغةً.
{فلن تستطيعَ له طَلَبًا} أي: لن تستطيع أبدًا للماء الغائر طلبًا، بحيث لا يبقى له أثر يطلبه به، فضلاً عن وجدانه ورده.
{وأُحِيطَ بثَمَرِه} أي: هلكت أشجاره المثمرة، وأمواله المعهودة، وأصله: من إحاطة العدو، وهو عطف على مُقدر، كأنه قيل: فوقع بعض ما وقع من المحذور، وأهلكت أمواله، رُوي أن الله تعالى أرسل عليها نارًا فأحرقتها وغار ماؤها. {فأصبح يُقلَّب كفَّيه} ظهرًا لبطن، أو يضرب يديه واحدة على أخرى، يصفق بهما، وهو كناية عن الندم، كأنه قال: فأصبح يندم {على ما أنفق فيها} أي: في عمارتها من الأموال. وجعل تخصيص الندم بها دون ما هلك الآن من الجنة؛ لأنه إنما يكون على الأفعال الاختيارية. انظر أبا السعود.
{وهي} أي: الجنة {خاويةً}: ساقطة {على عُرُوشها} أي: دعائمها المصنوعة للكروم، فسقطت العروش أولاً ثم سقطت الكروم عليها. وتخصيص حالها بالذكر، دون الزرع والنخل، إِمَّا لأنها العمدة وهما من متمماتها، وإِمَّا لأن ذكر هلاكها مُغْن عن ذكر هلاك الباقي؛ لأنها حيث هلكت، وهي مشتدة بعروشها فهلاك ما عداها أولى، وإِمَا لأن الإنفاق في عمارتها أكثر. {ويقولُ} أي: يقلب وهو يقول: {يا ليتني لم أشركْ بربي أحدًا}، كأنه تذكر موعظة أخيه، وعَلِمَ أنه إنما أُتِيَ من قِبَلِ شِرْكِهِ، فتمنى أنْ لم يكن مشركًا فلم يصبه ما أصابه.
{ولم تكن له فئةٌ}: جماعة {ينصرونه}: يقدرون على نصره؛ بدفع الهلاك عن أمواله، {من دون الله}، فإنه القادر على ذلك وحده، {وما كان منتصرًا} أي: وما كان في نفسه ممنوعًا بقوته من انتقامه سبحانه منه.
{هنالك}؛ في ذلك المقام، وفي تلك الحال {الولاَيةُ لله الحقّ} أي: النصرة له وحده، لا يقدر عليها أحد غيره، وقُرئ: {الحقِ}؛ بالكسر، صفة لله، وبالرفع، نعت للولاية. ويُحتمل أن يكون: {هنالك} ظرفًا لمنتصرًا، أي: وما كان ممتنعًا من انتقام الله منه في ذلك الوقت، ففيه تنبيه على أن قوله: {يا ليتني لم أشرك}: كان عن اضطرار وجزع مما دهاه، فلذلك لم ينفعه، كقوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85]. وحينئذ استأنف تعالى الإخبار عن كمال حفظه لأوليائه فقال: {الولايةُ لله الحق} أي: الحفظ والرعاية والنصرة إنما هي من الله لأوليائه في الدنيا والآخرة، لا يخذلهم في حال من الأحوال، بل يتولى سياستهم ونصرهم وهدايتهم، كما هو شأن من اعتز بالله، دون من اعتز بغيره، فقوله: {ولم تكن له فئة}: رد لقوله: {وأعزُّ نفرًا}؛ أي: بل النصرة لله لأوليائه، دون من تولى غيره.
والحاصل: أن من تولى الله فعاقبته النصرة، ومن تولى غيره فعاقبتُه الخذلان. والعياذ بالله. ويحتمل أن يكون قد تَم الكلام على القصة، ثم أعاد الكلام إلى ما قبل القصة، فقال: {هنالك} عند ذلك، يعني: يوم القيامة {الولايةُ لله الحق}؛ يتولون الله ويُؤمنون به، ويتبرأون مما كانوا يعبدون، {هو خيرٌ ثوابًا} أي: خير من يرجى ثوابه، {وخيرُ عُقبًا} أي: عاقبة لأوليائه.
والعُقب: العاقبة، يقال: عاقبة كذا وعُقْبَاهُ وعقبه، أي: آخره. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد ضرب الله مثلاً لمن عكف على هواه، وقصر همته على زخارف دنياه، ولمن توجه بهمته إلى مولاه، وقدَّم دنياه لأخراه، فكان عاقبة الأول: الندم والخسران، وعاقبة الثاني: الهنا والرضوان، أوْ لمن وقف مع علمه واعتمد عليه، ولمن تبرأ من حوله وقوته في طلب الوصول إليه.
قال في لطائف المنن: لا تدخل جنة علمك وعملك، وما أعطيت من نور وفتح فتقول كما قال من خذِل، فأخبر الله عنه بقوله: {ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدًا...} الآية. ولكن ادخلها كما بيّن لك، وقل كما رَضي لك: {ولولا إِذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله}، وافهم ههنا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بالله كَنْزٌ من كُنُوزِ الجنة» وفي رواية أخرى: «كنز من كنوز تحت العرش». فالترجمة: ظاهر الكنز، والمكنوز فيها: صدق التبري من الحول والقوة، والرجوع إلى حول الله وقوته.


قلت: {كماءٍ}: خبر عن مضمر، أي: هي كماء، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانيًا لاضْربْ، على أنه بمعنى صيِّر.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {واضربْ لهم مَثَل الحياة الدنيا} أي: واذكر لهم ما يشبهها في زهرتها ونضارتها، وسرعة انقراضها وفنائها؛ لئلا يطمئنوا إليها ويغفُلوا عن الآخرة، هي {كماءٍ أنزلناه من السماء} وهو المطر، {فاختلط به} أي: بسببه {نباتُ الأرض} بحيث التف وخالط بعضُه بعضًا؛ من كثرته وتكاثفه، ثم مرت مدة قليلة {فأصبح هشيمًا} أي: مهشومًا مكسورًا، {تذروه الرياحُ} أي: تُفرقه وتطيره، كأن لم يَغْنَ بالأمس، {وكان الله على كل شيء مقتدرًا}: قادرًا، ومن جملة الأشياء: الإفناء والإنشاء.
{المالُ والبنونَ زينةُ الحياةِ الدنيا} أي: مما تذروه رياح الأقدار، ويلحقه الفناء والبوار، ويدخل في الزينة: الجاهُ، وجميعُ ما فيه للنفس حظ؛ فإنه يفنى ويبيد، ثم ذكر ما لا يفنى فقال: {والباقياتُ الصالحاتُ}؛ وهي أعمال الخير بأسرها، أو: الصلوات الخمس، أو: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر»، زاد بعضهم: «ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم». قال عليه الصلاة والسلام: «هي من كنز الجنة، وصفايا الكلام، وهن الباقيات الصالحات، يأتين يوم القيامة مقدمات ومعقبات».
أو: الهمات العالية والنيات الصالحة؛ إذ بها ترفع الأعمال وتُقبل. أو: كل ما أريد به وجه الله، وسميت باقيةً: لبقاء ثوابها عند فناء كل ما تطمح إليه النفس من حظوظ الدنيا وزينتها الفانية.
قال في الإحياء: كل ما تذروه رياح الموت فهو زهرة الحياة الدنيا، كالمال والجاه مما ينقضي على القرب، وكل ما لا يقطعه الموت فهو الباقيات الصالحات، كالعلم والحرية؛ لبقائهما؛ كمالاً فيه، ووسيلة إلى القرب من الله تعالى، أما الحرية من الشهوات فتقطع عن غير الله، وتجرده عن سواه، وأما العلم الحقيقي فيفرده بالله ويجمعه عليه. اهـ.
وهي، أي: الباقيات الصالحات {خيرٌ عند ربك} أي: في الآخرة {ثوابًا} أي: عائدة تعود على صاحبها، بخلاف ما شأنه الفناء من المال والبنين؛ فإنه يفنى ويبيد. وهذا كقوله تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} [النحل: 96]. وقوله: {عند ربك}: بيان لما يظهر فيه خيريتها، لا لأفضليتها من المال والبنين مع مشاركتها لها في الخيرية؛ إذ لا مشاركة لهما في الخيرية في الآخرة. ثم قال تعالى: {وخيرٌ أملاً} أي: ما يُؤمله الإنسان ويرجوه عند الله تعالى؛ حيث ينال صاحبها في الآخرة كل ما كان يُؤمله في الدنيا، وأما ما مرّ من المال والبنين فليس لصاحبه فيه أمل يناله. وتكرير {خير}؛ للإشعار باختلاف حيثيتي الخيرية والمبالغة فيه.
الإشارة: قد تقدم، مرارًا، التحذير من الوقوف مع بهجة الدنيا وزخارفها الغرارة؛ لسرعة ذهابها وانقراضها. رَوى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا هريرة تريد أن أريك الدنيا»؟ قلت: نعم، فأخذ بيدي، وانطلق، حتى وقف بي على مزبلة، رؤوس الآدميين ملقاة، وبقايا عظام نخرة، وخِرَق بالية قد تمزقت وتلوثت بنجاسات الآدميين، فقال: «يا أبا هريرة؛ هذه رؤوس الآدميين التي تراها، كانت مثل رؤوسكم، مملوءة من الحرص والاجتهاد على جمع الدنيا، وكانوا يرجون من طول الأعمار ما ترجون، وكانوا يَجِدُّون في جمع المال وعمارة الدنيا كما تَجِدُّون، فاليوم قد تعرّت عظامهم، وتلاشت أجسامهم كما ترى، وهذه الخرق كانت أثوابهم التي كانوا يتزينون بها، وقت التجمل ووقت الرعونة والتزين، فاليوم قد ألقتها الرياح في النجاسات، وهذه عظام دوابهم التي كانوا يطوفون أقطار الأرض على ظهورها، وهذه النجاسات كانت أطعمتهم اللذيذة التي كانوا يحتالون في تحصيلها، وينهبها بعضُهم من بعض، قد ألقوها عنهم بهذه الفضيحة التي لا يقربها أحد؛ من نتنها، فهذه جملة أحوال الدنيا كما تُشاهد وترى، فمن أراد أن يبكي على الدنيا فليبك، فإنها موضع البكاء» قال أبو هريرة رضي الله عنه: فبكى جماعة الحاضرين.


قلت: {ويوم}: معمول لمحذوف، أي: واذكر، أو عطف على قوله: {عند ربك}، أي: والباقيات الصالحات خير عند ربك ويوم القيامة، و{حشرناهم}: عطف على {نُسيّر}؛ للدلالة على تحقق الحشر المتفرع على البعث الذي ينكره المشركون، وعليه يدور أمر الجزاء، وكذا الكلام فيما عطف عليه، منفيًا وموجبًا، وقيل: هو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز؛ ليعاينوا تلك الأهوال، كأنه قيل: وحشرناهم قبل ذلك. و{نغادر}: نترك، يقال: غادره وأغدره: إذا تركه، ومنه: الغدير؛ لما يتركه السيل في الأرض من الماء، و{صفًّا}: حال، أي: مصْطفين.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكر {يوم نُسيِّرُ الجبالَ} أي: حين نقلعها من أماكنها ونسيرها في الجو، على هيئتها، كما ينبئ عنه قوله تعالى: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} [النمل: 88] أو: نسير أجزاءها بعد أن نجعلها هباء منثورًا، والمراد من ذكره: تحذير الغافلين مما فيه من الأهوال، وقرئ: {تُسَيَّر}؛ بالبناء للمفعول؛ جريًا على سَنَن الكبرياء، وإيذانًا بالاستغناء عن الإسناد إلى الفاعل؛ لظهور تعينه، ثم قال: {وترى الأرضَ} أي: جميع جوانبها، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يسمع، {بارزةً}: ظاهرة، ليس عليها جبل ولا غيره. بل تكون {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً} [طه: 106، 107]. {وحشرناهم}: جمعناهم إلى الموقف من كل حدب، مؤمنين وكافرين، {فلم نُغادرْ} أي: لم نترك {منهم أحدًا}.
{وعُرِضُوا على ربك}، شبهت حالتهم بحال جُنْدٍ عُرِضَ على السلطان، ليأمر فيهم بما يأمر. وفي الالتفات إلى الغيبة، وبناء الفعل للمفعول، مع التعرض لعنوان الربوبية، والإضافة إلى ضميره- عليه الصلاة والسلام- من تربية المهابة، والجري على سَنَن الكبراء، وإظهار اللطف به صلى الله عليه وسلم- ما لا يخفى. قاله أبو السعود. {صَفًّا} أي: مصْطَفِّينَ غير متفرقين ولا مختلطين، كل أمة صَفٌّ، وفي الحديث الصحيح: «يَجْمَعُ اللهُ الأولين والآخرين في صَعِيدٍ واحِد، صفوفًا، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِيِ وَيَنْفُذُهُم البَصَرُ...» الحديث بطوله. وفي حديث آخر: «أهل الجنة، يوم القيامة، مائة وعشرون صفًا، أنتم منها ثمانون صفًا».
يقال لهم- أي: للكفرة منهم: {لقد جئتمونا كما خلقناكم أولَ مرة}، وتركتم ما خولناكم وما أعطيناكم من الأموال وراء ظهوركم. أو: حفاة عراة غُرْلاً، كما في الحديث.
وهذه المخاطبة، بهذا التقريع، إنما هي للكفار المنكرين للبعث، وأما المؤمنون المُقِرون بالبعث فلا تتوجه إليهم هذه المخاطبة، ويدل عليه ما بعده من قوله: {بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدًا} أي: زعمتم في الدنيا أنه، أي: الأمر والشأن، لن نجعل لكم وقتًا يَتَنَجَّزُ فيه ما وعدته من البعث وما يتبعه.
وهو إضراب وانتقال من كلام، إلى كلام، كلاهما؛ للتوبيخ والتقريع.
{ووضع الكتاب} أي: كتاب كل أحد، إما في يمينه أو شماله، وهو عطف على: {عُرِضوا}، داخلٌ تحت الأمور الهائلة التي أريد بذكرها تذكير وقتها، وأورد فيه ما أورد في أمثاله من صيغة الماضي؛ لتحقق وقوعه، وإيثار الإفراد؛ للاكتفاء بالجنس، والمراد: صحائف أعمال العباد. ووضعها إما في أيدي أصحابها يمينًا وشمالاً، أو في الميزان. {فترى المجرمين} قاطبة، المنكرون للبعث وغيرهم، {مشفقين}: خائفين {مما فيه} من الجرائم والذنوب، {ويقولون}، عند وقوفهم على ما في تضاعيفه؛ نقيرًا أو قطميرًا: {يا ويلتنا} أي: ينادون بتهلكتهم التي هُلكوها من بين التهلكات، ومستدعين لها؛ ليهلكوا، ولا يرون تلك الأهوال، أي: يا ويلتنا احضري؛ فهذا أوان حضورك، يقولون: {ما لهذا الكتاب لا يُغادرُ}: لا يترك {صغيرةً ولا كبيرةً} من ذنوبنا {إلا أحصاها} أي: حواها وضبطها، وجملة {لا يغادر}: حال محققة؛ لِمَا في الاستفهام من التعجب، أو استئنافية مبنية على سؤال مقدر، كأنه قيل: ما شأنه حتى يتعجب منه؟ فقال: لا يغادر سيئة صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، {ووجدوا ما عملوا} في الدنيا من السيئات، أو جزاء ما عملوا {حاضرًا}: مسطورًا عتيدًا، {ولا يظلم ربُّك أحدًا}، فيكتب ما لم يعمل من السيئات، أو يزيد في عقابه المستحق له. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ويوم نُسير جبال الحس، أو الوهم، عن بساط المعاني، وترى أرض العظمة بارزة ظاهرة لا تخفى على أحد، إلا على أَكْمَهَ لا يُبصر القمر في حال كماله، وحشرناهم إلى الحضرة القدسية، فلم نغادر منهم، أي: ممن ذهب عنه الحس والوهم، أحدًا، وعُرضوا على ربك؛ لشهود أنوار جماله وجلاله، صفًا، للقيام بين يديه، فيقول لهم: لقد جئتمونا من باب التجريد، كما خلقناكم أول مرة، مُطَهَّرِينَ من الدنس الحسي، غائبين عن العلائق والعوائق، وكنتم تزعمون أن هذا اللقاء لا يكون في الدنيا، وإنما موعده الجنة، ومن مات عن شهود حسه، وعن حظوظه، حصل له الشهود واللقاء قبل الموت الحسي، ووضع الكتاب في حق أهل الحجاب، فترى المجرمين من أهل الذنوب مشفقين مما فيه، ووجود العبد: ذَنْبٌ لا يقاس به ذنب، فَنَصْبُ الموازين، ومناقشةُ الحسابِ؛ إنما هو لأهل الحجاب، وأما العارفون الفانون عن أنفسهم، الباقون بربهم، لم يبق لهم ما يُحاسبون عليه؛ إذ لا يشهدون لهم فعلاً، ولا يرون لأحد قوة ولا حولا. والله تعالى أعلم.
ولمّا كان سبب العذاب ووجود الحجاب هو التكبر على رب الأرباب، ذكر وبالَهُ بإثر الحشر والحساب، أو تقول: لمَّا ذكر قصة الرجلين ذكر قُبح صنيع من افتخر بنفسه، وأنه شبيه بإبليس، وكل من افتخر واستنكف عن الانتظام في سلك فقراء المؤمنين كان داخلاً في حزبه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8